سورة الكهف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} روى أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، يقال فيه: دقلوس. ويقال فيه: دقنيوس: وروى أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوى ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى.
وقيل: كانوا قبل عيسى، والله اعلم.
وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا، فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا.
وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين- حسبما ذكر النقاش أو من مؤمنى الأمم قبلهم- فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لي: إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روى: {رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ-} إلى قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}.
وروى أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل استأنى فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمرى، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إنى أعرف كهفا في جبل كذا، وكان أبى يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما روى يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم.
وروى أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك.
وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حوارى لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه. واشتهرت خلطتهم به، فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحوارى فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعا، فاتهم ذلك الحوارى وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا. وأما الكلب فروى أنه كان كلب صيد لهم، وروى أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم، قال ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير. وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنهم وصاحب غنم.
الثانية: هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة النحل. وقد نص الله تعالى على ذلك في براءة وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العزلة، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}.
وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت، وقد جاء في الخبر: «إذا كانت الفتنة فاخف مكانك وكف لسانك». ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر واهلة بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم.
وقال ابن المبار ك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.
وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال«المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «نعم صوامع المؤمنين بيوتهم» من مراسل الحسن وغيره.
وقال عقبة بن عامر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: «يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وآبك على خطيئتك».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن». خرجه البخاري. وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لامتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال». وذكر أيضا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة». قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: «إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران». قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها».
قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهى أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}. ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل، وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذا هم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن.
وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا. وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب، مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم- والله اعلم- لان ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة.
وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «يعجب ربك من راعى غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلى فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدى يؤذن ويقيم الصلاة يخاف منى قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة». خرجه النسائي.
الثالثة: قوله تعالى: {وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً} لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله تعالى فقالوا: {رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي مغفر ورزقا. {وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً} توفيقا للرشاد.
وقال ابن عباس: مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.


{فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)}
عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا، لان النائم إذا سمع انتبه.
وقال ابن عباس: ضربنا على آذانهم بالنوم، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها.
وقيل: المعنى {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب.
وقال قطرب: هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبا لك أننى *** ضربت على الأرض بالاسداد
وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الاذن في النوم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل. و{عَدَداً} نعت للسنين، أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير، لان القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط.
وقال أبو عبيدة: {عَدَداً} نصب على المصدر. ثم قال قوم: بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً}.


{ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)}
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناهُمْ} أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيى أو أقيم من نومه: مبعوث، لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف.
قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} {لِنَعْلَمَ} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته، وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري {ليعلم} بالياء. والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف.
وقيل: هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و{أَحْصى} فعل ماض. و{أَمَداً} نصب على المفعول به، قاله أبو على.
وقال الفراء: نصب على التمييز.
وقال الزجاج: نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية.
وقال مجاهد: {أَمَداً} نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب.
وقال الطبري: {أَمَداً} منصوب ب {لَبِثُوا}. ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و{أَحْصى} فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر، كقولك: ما أعطاه للمال وآتاه للخير.
وقال في صفة حوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ماؤه أبيض من اللبن».
وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8